قررمجلس القضاء الأعلى في العراق يوم 12 تموز 2010 تشكيل محكمة مختصة بقضايا النشر والأعلام ، ونص القرار المنشور في موقع السلطة القضائية في العراق على(تقديرا لكافة أعضاء السلطة الرابعة من الإعلاميين والصحفيين قرر مجلس القضاء الأعلى تخصيص محكمة في رئاسة استئناف الرصافة تتولى النظر في الشكاوى والدعاوى المتعلقة بالأعلام والنشر في جانبيها المدني والجزائي وخصص لهذه المحكمة قاضيا متمرسا وعلى دراية تامة بدور رجال الصحافة والأعلام مقامة ومكانتهم الاجتماعية على أن يتم التعامل معهم بما يتناسب مع هذه المكانة لوجود شكاوى من قبلهم أو ضدهم ).
هذا القرار يمثل خطوة جديدة ومهمة يخطوها القضاء العراقي في الاستجابة للتطورات والحاجات المستجدة التي يشهدها المجتمع العراقي الذي شهد توسعا كبيرا في قطاع الصحافة والاعلام الذي حدثت فيه نقلة نوعية وكمية بعد التغيير الذي حدث عام 2003، والذي كان اعلاما موجها ومحكوما بقبضة حديدية ومسخراً لخدمة النظام الحاكم مقتصرا على عدد محدود من الصحف والمجلات والاذاعات والقنوات الأرضية المحلية المعدودة ومنع استقبال القنوات الفضائية داخل العراق، الا انه تطور وتوسع بعد التاسع من نيسان 2003 الى حد الانفلات الاعلامي الذي شهد توسعا هائلا في الإعلام بمختلف فروعه، فالاعلام المرئي ظهرت فيه عشرات القنوات الفضائية والأرضية والتي تجاوزت اكثر من 60 قناة فضائية ، إضافة إلى اكثر من 52 محطة إذاعية، كما شمل التطور الإعلام المقروء متمثلا بوجه خاص في الصحف التي بلغ عدد الصحف اليومية الصادرة في بغداد لوحدها ما يزيد على الـ 150 صحيفة بالإضافة إلى عدد آخر في بقية المحافظات، الى جانب عشرات المجلات والدوريات التي تصدرها او تنشرها العديد من الجهات ومنظمات المجتمع المدني والجامعات والاشخاص على حد سواء والتي تشهد يوميا حركة مستمرة بتوقف او ولادة عدد آخر من الصحف والقنوات والاذاعات.
وهو ما يؤدي الى زيادة كبيرة في عدد العاملين في هذه الوسائل الاعلامية وكثرة الشكاوى والقضايا والدعاوى التي لها علاقة او مساس بعملهم، وهو ما يستلزم بالمقابل ان يستجيب القضاء لهذه التطورات ويقوم بتخصيص محكمة مختصة بالنظر في مثل هذه الدعاوى والشكاوى باعتبار القضاء الساحة العملية والميدان الحقيقي لتطبيق احكام القانون على واقع ومشكلات وحاجات الناس المعروضة عليه.
ومن المهم ابتداءا التمييز بين المحكمة المختصة والمحكمة الخاصة الذي التبس على الكثيرين، فقد حصل سوء فهم وخلط بين مفهوم المحاكم المختصة ومفهوم المحاكم الخاصة خصوصا من بعض الصحفيين والعاملين في مجال الاعلام والذين ابدوا تخوفهم من قرار تشكيل المحكمة المختصة بقضايا النشر والاعلام.
فالمحكمة المختصة :هي محكمة عادية مثلها مثل أي محكمة اخرى موجودة في النظام القضائي في أي بلد مثل محاكم البداءة والأحوال الشخصية والجنح والجنايات وحسب اختصاصاتها وولايتها المكانية التي يحددها النظام القانوني في البلد، والذي لا يمنع مثلا من استحداث اوتشكيل أي محاكم مختصة بنوع معين من الموضوعات او الدعاوى او الاشخاص الذين يخضعون لولاية هذه المحاكم المختصة كما هو الحال في محاكم البداءة المختصة بتطبيق قانون ايجار العقار ومحاكم العمل و محاكم الاحداث التي تختص بالنظر في قضايا الاحداث بقصد توفير الحماية والرعاية الخاصة لهم نظرا لسنهم وطبيعة التعامل الخاص معهم، او أي محكمة اخرى تختص بمواضيع مثل الفساد او المحاكم الادارية التي يكون احد اطرافها الدولة او احدى المؤسسات العامة حيث لا يعتبر تشكيلها مخالفا لاحكام الدستور وانما هو تطبيق لاحكام القوانين النافذة المختصة مثل قانون التنظيم القضائي وقوانين المرافعات المدنية وايجار العقار وقانون الاحداث وغيرها من القوانين التي تنظم مختلف شؤون الحياة في المجتمع.
اما المحاكم الخاصة : فهي المحاكم التي تنشؤها الدولة او الحكومة او بعض السلطات فيها لمحاكمة اشخاص او اوضاع ترى فيها خطرا ومساسا لسلطتها وهيمنتها في المجتمع ، ويكثر انشاء مثل هذه المحاكم في الانظمة البعيدة عن الديمقراطية والتي تحاول حماية سلطتها الديكتاتورية بفرض القوانين والاحكام الخاصة، وهو ما كان معمولا به في العراق ايام النظام السابق والتي كانت فيه المحاكم الخاصة تجربة مريرة في خدمتها للسلطة والحزب الحاكم وقسوة احكامها وقطعية قراراتها التي كانت غير خاضعة للاستئناف او التمييز.
من خلال الاطلاع على أحكام الدستور العراقي الصادر عام 2005 والقوانين النافذة في العراق يمكننا من ايراد أهم القواعد والحقائق القانونية وهي :
1-ان تشكيل هذه المحكمة لا يمثل تقييدا او مساسا بالحريات المقررة لجميع المواطنين بما فيهم الصحفيين والتي كفلها الدستور الذي ورد في الفصل الثاني منه والذي حمل عنوان(الحريات العامة ) وفي المواد 37الى46 حيث نصت المادة 37 من الدستورعلى أن (حرية الانسان وكرامته مصونه، ولا يجوز توقيف احد او التوقيف معه الا بموجب قرار قضائي) كما ان الدولة ملزمة بحماية الحقوق اعلاه حسبما نصت المادة 38 من الدستور(تكفل الدولة بما لا يخل بالنظام العام والآداب وحرية التعبير عن الرأي بكل الوسائل وحرية الصحافة والطباعة والاعلان والاعلام والنشر).
2-انه لا يوجد في الدستورالعراقي نص يمنع انشاء المحاكم المختصة لانها مسألة تنظيمية يختص القانون ببيان تفصيلها ، فالدستور العراقي منع انشاء المحاكم الخاصة اوالاستثنائية وليس المحاكم المختصة التي تجد السلطة القضائية (مجلس القضاء الاعلى) مسوغ أو مبرر لتشكيلها تبعا للظروف والاحوال التي يمر بها البلد ، فقد ورد في الفصل الثالث من الدستور والذي حمل عنوان(السلطة القضائية) وفي الفرع الثالث (احكام ختامية) نصت المادة 95من الدستور على (يحظر انشاء محاكم خاصة او استثنائية).
كما ان الدستور باعتباره القانون الاعلى الذي يستقر في اعلى الهرم القانوني في أي بلد ليس من مهمته الدخول في التفاصيل والامور الجزئية لعمل السلطات، وهو ما قررته المادة 96(ينظم القانون تكوين المحاكم وانواعها ودرجاتها واختصاصاتها،وكيفية تعيين القضاة وخدمتهم وأعضاء الادعام العام ، وانضباطهم واحالتهم على التقاعد).
كما ان القراءة القانونية لقرار تشكيل المحكمة المختصة لقضايا النشر والاعلام ومقارنته بما سبق اعلاه يبين لنا ما يلي :
1- أن هذه المحكمة المختصة هي الوحيدة والأولى من نوعها في العراق، حيث لم يسبق في العراق أن شهد مثل هذا النوع من المحاكم سابقاً، وهي بذلك تمثل نوعا من انواع القضاء المتخصص في الاعلام الذي لم يعرفه النظام القضائي سابقا وبذلك سحبت هذه المحكمة الاختصاص المكاني الجزائي والمدني من بقية المحاكم في قضايا النشر والاعلام.
2-انها محكمة مختصة وليست محكمة خاصة، تتولى النظر بالشكاوى والدعاوى المتعلقة بوسائل الإعلام بجانبيه المدني والجزائي، أي أنها ستكون ذات اختصاصات محاكم البداءة فيما يتعلق بالاختصاصات المحددة لمحاكم البداءة في دعاوى المطالبة بالتعويض عن قضايا النشر والإعلام .
وستكون محكمة تحقيق فيما يتعلق بالشكاوى والدعاوى التي يتوافر فيها العنصر الجزائي، أي الدعاوى والشكاوى التي تخضع لاحكام قانون العقوبات واصول المحاكم الجزائية واي عقوبات مفروضة ضمن القوانين النافذة، وتطبق القوانين والاجراءات المعمول بها في محاكم التحقيق .
3-انها محكمة تقع في رئاسة استئناف الرصافة في العاصمة بغداد وتمتد ولايتها الى جميع انحاء العراق، حيث يمنع بعد هذا التاريخ على جميع المحاكم في العراق النظر في الدعاوى التي يكون احد طرفيها صحفيا او اعلاميا او موضوعها يتعلق بمسائل النشر والاعلام، حيث لايجوز اقامة دعوى او تحريك أية شكوى على أي صحفي أو إعلامي بقضية تتعلق بجرائم النشر إلا أمام هذه المحكمة حصرا، كما لا يجوز إقامة الدعوى المدنية للمطالبة بالتعويض عن قضايا النشر إلا من خلال هذه المحكمة ايضا ، وهو ما يوجب احالة جميع القضايا التي مازالت قيد التحقيق إلى هذه المحكمة ومن جميع محاكم العراق .
4-ان المحكمة سيخصص لها قاضياً مختصا على دراية تامة بالقضايا المتعلقة بالصحافة والاعلام، وكان من الاولى ايضا ان ينص قرار تشكيلها على تعيين نائب مدع عام له المام او اختصاص بقضايا الصحافة و الاعلام لكي يكون تشكيلها كاملا ومستوفيا لكافة الشروط والضمانات المطلوبة لمرافعة او محاكمة عادلة للماثلين امامها.
5- المحكمة ستتولى النظر بالشكاوى المقدمة من قبل الاعلاميين والصحفيين ضد الانتهاكات التي يتعرضون لها أي اذا كانوا مدعين أم مشتكين، كما ستتولى كذلك النظر بالشكاوى المقدمة ضد وسائل الإعلام والصحافيين اذا كانوا مدعى عليهم او مشكو منهم.
6-ان الطعن بقرارات هذه المحكمة بصفتها محكمة تحقيق يكون أمام محكمة الجنايات في الرصافة وأمام محكمة الاستئناف في بغداد الرصافة في الدعاوى المدنية .
7-ان هذه المحكمة لاتنظرإلى صفة الصحفي بل إلى موضوع الشكوى وتحديدا بالقضايا المتعلقة والعقوبات المقررة في قانون العقوبات العراقي رقم 111 لسنة 1969 المعدل ، للجرائم المتعلقة بالصحافة و النشر والمحددة في المواد ( 81، 82، 83، 84، 201، 202، 210، 211، 215، 225، 226، 227، 403، 433، 434) والتي هي نافذة طالما لم يصدر قانون خاص بالعمل الصحفي في العراقي، وهي ليست موجهة ضد الصحفيين او الاعلاميين فقط بل هي سارية على عموم الاشخاص والتصرفات التي تخضع لاحكام القانون، وهو ما يعني ان هذه المحكمة تختص في الشكاوى المتعلقة بقضايا النشر سواء كان المشتكي او المشكو منه او المدعي او المدعى عليه مواطناً عاديا او موظفا او مسؤولاً في الدولة أوصحفياً أو إعلامياً .
8-واخيرا فان تشكيل هذه المحكمة من شأنه ان يوحد الاحكام الصادرة في قضايا النشر والاعلام بدلا من الاجتهادات التي تحصل من المحاكم المختلفة في العراق والتي قد تختلف في منطقة عن اخرى سواء بالنسبة لاعتبار الفعل المشكو منه يشكل جريمة معاقب عليها او نوع هذه الجريمة من حيث وصفها والعقوبة المقررة لها او بالنسبة للتعويض الذي قد يختلف مقداره وطريقة تقديره من محكمة الى اخرى.
هذا ومن المهم القول ان هذه المحكمة وما تم بيانه من احكام خاصة بها لاسريان له ولا ولاية لهذه المحكمة في اقليم كوردستان الذي يخضع الى سلطة مجلس القضاء في اقليم كوردستان، لكن هذا لا يمنع من دعوة مجلس القضاء في اقليم كوردستان الى القيام بخطوة مماثلة وتشكيل مثل هذه المحكمة في العاصمة اربيل لان الاسباب والظروف التي دعت الى قيامها في بغداد يوجد ما يماثلها في اقليم كوردستان، بل ان الحاجة اليها اكثر لان الاقليم يتمتع باستقرار امني وسياسي وقد صدرت فيه مجموعة من القوانين المنظمة للعمل الصحفي مثل قانون نقابة صحفيي كوردستان رقم 4 لسنة 1998 وتعديله بالقانون رقم 40 لسنة 2004 وقانون العمل الصحفي في كوردستان رقم 35 لسنة 2007، ويشهد الاقليم ولادة واقامة مئات القنوات والمحطات والوسائل الاعلامية التي وجدت الكثير منها فيه منطلقا وآفاقا واسعة للانطلاق والعمل باتجاه بقية ارجاء العراق والعالم.