حسين علي داود
تعتبر الصحافة الاستقصائية من اهم الاشكال الصحافية واكثرها تأثيرا في المجتمع، لتعاطيها مع قضايا اساسية ترتبط بفئات واسعة، وغالبا ما تكون هذه القضايا مصيرية، ولهذا فان مهمة الكشف عنها ليست باليسيرة.
وغالبا ما يأخذ الموضوع الاستقصائي الواحد شهورا وربما سنوات من العمل، معتمدا على عشرات الوثائق والشهادات والافادات.
وعلى الرغم من ان الصحافة الاستقصائية تواجه صعوبات عدة في غالبية البلدان حتى الديموقراطية منها، لكن هذه الصعوبات تبدو اكثر واكبر في البلدان المضطربة امنيا وسياسيا كما هو حال العراق، وتتعلق هذه الصعوبات بمعايير مهنية وفراغ تشريعي وقانوني وتحديات امنية تواجه العالمين في هذا الحقل الصحافي ذات النفس الطويل.
وفي بلد مثل العراق، يقع تحت وطأة الفساد الاداري والمالي وفضائح الساسة ورجال الاعمال وصفقاتهم، لا يلاقي المتخصص في الصحافة الاستقصائية مشكلة كبيرة في اختيار مواضيعه، لكن مشكلته تكمن في كيفية الوصول الى المعلومة وفي حال وصل اليها كيفية نشرها وسط مافيات لا تتردد في تهديد الصحافي وتعريض حياته للخطر.
وعلى الرغم من الصعوبات انفة الذكر لكن محاولات جرت وتجري لدعم هذا الفن الصحافي المهم، ومن ابرز المحاولات تأسيس عن شبكة الصحافة الاستقصائية العراقية "نيريج" عام 2011 وهي أول شبكة للصحافة الاستقصائية في البلاد، تأسست بجهود نخبة من الصحفيين الاستقصائيين، وعملت منذ تأسيسها على توفير الدعم التحريري والمالي والاستشاري للصحفيين الاستقصائيين العراقيين، لإنجاز تحقيقات معمقة تستند الى البحث عن الحقائق الموثقة والمدعومة بالمصادر المتعددة وثيقة الصلة بالموضوع قيد الكشف.
وتقوم "نيريج" فضلاً عن إنجاز التحقيقات الاستقصائية، بتحسين مهارات الاستقصائيين العراقيين والعمل على نشر ثقافة التقصي في الصحافة العراقية، وتعمل على مساعدة الصحفيين الاستقصائيين في العراق على اختيار تحقيقات معمقة، وتأخذ على عاتقها متابعة كل مراحل انجاز التحقيق الاستقصائي من خلال الاشراف المباشر على التحقيق أولا بأول، والمساعدة على استكمال هيكل التحقيق ومراجعته لمرات متعددة وصولا الى تحريره بشكل نهائي ونشره في وسائل الاعلام العراقية والعربية وترجمته للنشر باللغتين الكردية والانكليزية.
ولكن هل كان ذلك كافيا لترسيخ ونشر مبادئ الاستقصاء الصحافي في البلاد؟، يقول سامان نوح المشرف العام على شبكة "نيريج" انه "لا يوجد لدينا في الصحافة العراقية، ما يطلق عليه مهنيا في الصحافة العالمية بالصحافة الاستقصائية، ما موجود هو تحقيقات استقصائية محدودة العدد والتأثير، ففي كل عام تنشر بضعة تحقيقات في الصحافة العراقية وهذا الواقع ينطبق على الصحافة العربية ايضا”.
وأضاف نوح، “هناك جهل في مفهوم التحقيقات الاستقصائية وفي أسس العمل الاستقصائي عموما، فتجد بعض الصحفيين يقولون انهم انجزوا تحقيقات استقصائية لكن في واقع الحال هي تقارير موسعة”.
ويتحدث سامان عن تجربة "نيريج" في هذا الحقل الصحافي بالقول "حاولنا التعريف بهذا الفن الصحفي والتثقيف به، وتم تنظيم العديد من الورش في مختلف مناطق البلاد، تلقى فيها نحو 70 صحفيا تدريبا جيدا، لكن حين نراجع اليوم اسماء من يعملون في هذا الحقل لا نجد الا نحو 10 اسماء، فمعظم الصحفيين يتحاشون العمل في هذا الحقل لصعوبته وارتفاع كلفه والجهد الكبير الذي يتطلبه ولعوامل اخرى عديدة تتعلق بعضها بحجم المخاطرة الشخصية التي قد تصل أحيانا الى تهديد حياة الصحفي".
فضلاً عن المشكلات السابقة، هناك مشاكل اخرى كبيرة تواجه انتشار الصحافة الاستقصائية بينها الظروف القانونية حيث تغيب قوانين فعالة للحصول على المعلومة، وضعف قوانين حماية الصحفيين وكثرة القيود المتعلقة بنشر المعلومات ذات الطابع السياسي والأمني، وهناك معوقات ذاتية خاصة بالصحفيين والمؤسسات الصحفية كضعف الامكانات المهنية للصحفيين وميلهم للعمل اليومي السهل، وضعف الامكانات المالية للمؤسسات وضعف استقلاليتها وعدم تخصيصها لموارد مالية تمكن من تدريب الصحفيين على انجاز تحقيقات معمقة، والحديث لسامان.
ويلفت سامان الى ان الأوضاع الأمنية والسياسية المعقدة، وغياب المؤسسات الديمقراطية وحرية الرأي والنشر كمناخ صحي لنمو وانتشار العمل الاستقصائي، إلى جانب عدم اهتمام الدوائر الحكومية بما يُنشر وعجز القضاء عن متابعة ما تنشره الصحافة من خلل وفساد يمكن تشرح جليا اسباب ندرة التحقيقات الاستقصائية في الصحافة العراقية اليوم، وانطلاقا من ذلك يمكننا ان نعرف ان مستقبل هذا النوع من العمل الصحفي لن يكون افضل من واقعه الحالي.
وتواجه الصحافي الاستقصائي تحديات أكبر من التحديات التي يواجهاأقرانه في باقي الأشكال الصحافية، فعليه الإلمام بأنظمة الحصول على المعلومات الرسمية وكيفية التأكد من صحتها وطريقة تحليلها وفق قوانين الحريات والإعلام المعمول بها، وإدراك المشكلات القانونية التي قد يتعرض لها الصحافي أو مؤسسته التي يعمل فيها، والمخاطر الشخصية على حياته أو حياة مصادر المعلومات والوثائق سواء كانوا اشخاصاًأو مؤسسات.
وتقول الصحافية خلود العامري، التي تعمل في مجال الصحافة الاستقصائية، إن هذا النوع من العمل الصحافي في العراق يعاني من مشكلات عدة، أهمها صعوبة الحصول على المعلومة الدقيقة، واضطرار الصحافي إلى الاستقصاء بطرق عدة بينها إخفاء هويته في الكثير من الأحيان للحصول على معلومة دقيقة.
المشكلة الأخرى وفقا للعامري، هي انه في بعض الجوانب الخاصة بالموضوع الاستقصائي تتعامل بعض المؤسسات مع الصحافي على انه دخيل على الموضوع، وتسوق العامري مثالا بالقول ان هناك مواضيع تتعلق بالأغذية أو المياه الفاسدة، ولهذا يحتاج الصحافي الى مختبرات لفحص العينات، والمشكلة أن هذه المختبرات حكومية او مرتبطة بشكل غير مباشر بالحكومة وهي ترفض التعامل مع الصحافي بسهولة.
ومن العوائق الأخرى، تعرض الصحافي الاستقصائي للتهديد عند إجراء تحقيقات تمس جهات حكومية او سياسيين او جهات أمنية، لذلك يستخدم بعض الصحفيين اسماء مستعارة لحماية انفسهم وفقا للعامري، وأيضاً هناك مشكلة تتعلق بغياب التعاون بين المنظمات المحلية المهتمة بالصحافة الاستقصائية فالعلاقة بينها تنافسية اكثر منها تعاونية وأخيرا قلة الصحفيين المهتمين بالاستقصاء فالكثيرون يعتبرون العمل الاستقصائي مضيعة للوقت ويفضلون العمل الصحفي اليومي السهل على الانتظار شهورا للكشف عن قضية ما.
وعلى رغم النبرة التشاؤمية الا ان العامري ترى ان الصحافة الاستقصائية بدأت تتطور في العراق خلال العامين الماضيين، وهناك توجهات جدية لترسيخ العمل الاستقصائي من قبل منظمات محلية واخرى دولية.
واذا كانت المواضيع والتحقيقات الاستقصائية محدودة الانتشار في الصحف ووسائل الاعلام العراقية، فان الدراسات البحثية المحلية هي الأخرى محدودة أيضاً، ومن بين البحوث والدراسات والرسائل الجامعية تبرز رسالة الماجستير الموسومة "الصحافة الاستقصائية في العراق.. دراسة مسحية في صحف المدى والصباح والمستقبل العراقي" لكاتبها الباحث فراس الياسي باعتبارها من الدراسات المحدودة في هذا المجال.
وتخلص هذه الرسالة التي اطلع عليها "بيت الإعلام العراقي" إلى نتائج مهمة، بينها أن الصحافة الاستقصائية في العراق بحاجة إلى خبرة وممارسة طويلة في العمل الصحفي، وتفرز نتائج الاستبانة ان العاملين في هذا المجال تراوحت أعمارهم ضمن الفئة العمرية (40ـ49) سنة، كما أن الصحافيين ذوو التحصيل الدراسي العالي أكثر قدرة على تقديم موضوعات استقصائية.
ومن النتائج اللافتة أن "إقامة الدورات الصحفية الخاصة بالصحافة الاستقصائية غير كافٍ لإنجاز اعمال استقصائية اذا لم تتوافر للصحفي عوامل اخرى مساعدة مثل الدعم المالي وغيرها من الحوافز، فضلا عن تقصير المؤسسات الصحفية في تقديم دورات لمواجهة المعوقات الامنية".
ومن النتائج الاخرى لهذه الدراسة ضعف الدعم المالي لكتاب التحقيقات الاستقصائية، ما أعاق الصحفيين من تقديم اعمال استقصائية لأنها بحاجة الى دعم مالي استثنائي، كما تبين عن البحث أن الزمن الممنوح لكتاب التحقيقات الاستقصائية غير متناسب مع ما تحتاجه التحقيقات المعمقة من وقت.
اما ابرز الاستنتاجات التي خرجت بها هذه الدراسة ان الممارسات الاولى للصحافة الاستقصائية في العراق تعود الى عقد السبعينيات إذ ظهرت في أكثر من مجلة وصحيفة منها مجلة الف باء ومجلة وعي العمال ومجلة صوت الطلبة، وكان الصحافي هو الذي يكشف الفساد أمام انظار المسؤول قبل عام 2003، إلا أن الوضع تغير بعد 2003م وأصبح المسؤول هو الذي يكشف الفساد للصحافة بدواعٍ مختلفة، منها الرغبات الخيرة المتمثلة بتأدية الوظيفة الرقابية للمسؤول ومنها الرغبة في تصفية الخصوم السياسيين بسبب المنافسة السياسية المحمومة بين الاطراف المختلفة.